اضغط بعيدا للإغلاق
نوفمبر 27, 2025

من عدن وحضرموت إلى موسكو: دراسة في التعليم الفني العابر للحدود

بين أواخر سبعينيات القرن الماضي وطوال ثمانينياته، عندما كان اليمن لا يزال مقسمًا إلى دولتين، حصل العديد من اليمنيين على منح دراسية لدراسة الفنون الجميلة في الاتحاد السوفيتي. هناك، تابع فنانو التشكيل الواعدون دراساتهم العليا في مجالات الرسم الجداري، وتصميم الملصقات، والنحت التذكاري، وفلسفة الفن وغيرها من التخصصات. وبعد سنوات طويلة من الدراسة في الاتحاد السوفيتي، عاد معظمهم إلى اليمن الموحّد بعد عام ١٩٩٠، حاملين معهم خبرات وأساليب جديدة أعادت تشكيل المشهد الفني المحلي. تتناول هذه المقالة التجارب التعليمية والثقافية التي عاشها أولئك الفنانين في ظل التضامن “الاشتراكي” العابر للحدود، وتستعرض كيف ساهمت تلك المرحلة في نشوء وتطور حركة الفنون التشكيلية اليمنية الحديثة.

من عدن وحضرموت إلى موسكو: دراسة في التعليم الفني العابر للحدود

بين أواخر سبعينيات القرن الماضي وطوال عقد الثمانينيات، كانت اليمن منقسمة إلى دولتين: الجمهورية العربية اليمنية (في الشمال) وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (في الجنوب)، إلا أن التبادل الثقافي مع الاتحاد السوفيتي لم يعرف هذا الانقسام.

ففي تلك الفترة، حصل عدد كبير من الطلبة والفنانين اليمنيين، خاصة من عدن وحضرموت، على منح دراسية لدراسة الفنون الجميلة في موسكو وجمهوريات الاتحاد السوفيتي المختلفة ضمن برامج التعاون “الاشتراكي” التي كانت تهدف إلى بناء جسور فكرية وثقافية مع دول العالم الثالث.

لم تكن هذه البعثات مجرد تجربة أكاديمية، بل كانت مشروعًا أيديولوجيًا وثقافيًا متكاملًا، أتاح لجيلٍ من اليمنيين أن يعيش تجربة حضارية مختلفة تمامًا، وأن يكتسب أدوات فنية ومنهجية جديدة ساهمت لاحقًا في تشكيل ملامح الفن التشكيلي اليمني الحديث.

الحقوق محفوظة للكاتب

الطريق إلى موسكو: من عدن والمكلا إلى جمهوريات الشمال

كان السفر إلى الاتحاد السوفيتي في تلك الحقبة حدثًا غير عادي. فقد جاء معظم المبتعثين من مناطق ذات إرث تجاري وثقافي منفتح على الخارج مثل عدن وحضرموت — وهما المنطقتان اللتان عُرفتا تاريخيًا باتصالهما بالعالم من خلال الموانئ والتعليم والمهجر.

استقبلتهم معاهد الفنون في موسكو، وسانت بطرسبورغ، ويريفان (أرمينيا)، وتبليسي (جورجيا)، وكييف (أوكرانيا)، حيث خضعوا لتدريب صارم على أسس الرسم الأكاديمي، النحت، الملصق الجداري، وفلسفة الفن.

لم تكن المنح كبيرة من حيث الموارد، لكنها فتحت أمام هؤلاء الشباب أبوابًا واسعة للفكر والإبداع والانضباط. في قاعات الفن السوفيتية الواسعة، حيث الجدران مغطاة بالجداريات والتماثيل، وجد اليمنيون أنفسهم في بيئة ترى أن الفن أداة لبناء الإنسان وليس ترفًا بصريًا.

كان الانضباط الفني جزءًا من روح النظام الاشتراكي، والفنان هناك يُنظر إليه بوصفه “مهندسًا للجمال الاجتماعي”.

منهج الواقعية الاشتراكية وتأثيره على الوعي الفني اليمني

اعتمدت الأكاديميات السوفيتية أسلوبًا دقيقًا في تدريب الفنانين يقوم على الواقعية الاشتراكية؛ وهو تيار فني يسعى لتصوير الإنسان كقوة فاعلة في التاريخ.

تعلّم الطلبة اليمنيون تشريح الجسد الإنساني، دراسة الضوء والظل، واستخدام الألوان لتمجيد العمل والإنتاج.

كانت اللوحات هناك تُمثّل “الإنسان العامل”، “المرأة الصانعة”، و“الجندي الحامي” — رموزٌ تُعبّر عن الإيمان بدور الفن في تشكيل الوعي الجمعي.

بالنسبة للفنانين اليمنيين، مثّل هذا التحوّل ثورة فكرية.

ففي بيئتهم الأصلية، كان الفن غالبًا نشاطًا فرديًا أو نخبوياً، أما في موسكو فكان مشروعًا وطنيًا ذا رسالة.

هذا الوعي الجديد جعل الفن عندهم وسيلة للتعبير عن الانتماء والنهضة الاجتماعية أكثر من كونه هواية شخصية.

تجربة الحياة والتفاعل الثقافي

تصف الصور الأرشيفية من عام 1978 — ومنها صورة طلاب يمنيين في أرمينيا — ملامح الدهشة الأولى: شباب من عدن والمكلا يقفون بين لوحات ضخمة وتماثيل برونزية، بملابس شتوية لا يعرفونها من قبل، وبنظراتٍ تحمل انبهارًا وانشغالًا في آنٍ واحد.

كانت تلك السنوات زمنًا لتداخل الثقافات: يتعرف الطلبة على الأدب الروسي، والمسرح، والموسيقى الكلاسيكية، ويستوعبون لأول مرة مفهوم “الفن العام” الذي يتجاوز اللوحة إلى الجدار والشارع والساحة العامة.

في تلك المراسم، اكتسبوا مهارة الانضباط الفني، والدقة الأكاديمية، والالتزام بمفهوم “العمل الجماعي للفن” الذي كان ركنًا أساسيًا في التربية الجمالية الاشتراكية.

ومن هناك، وُلد جيلٌ من الفنانين اليمنيين مثقفين فكريًا بقدر ما هم مبدعون تشكيليًا.

العودة إلى الوطن: الفن بين الوحدة والتأسيس

مع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، عاد معظم الفنانين إلى اليمن الموحّد حديثًا.

وجدوا أنفسهم أمام فراغٍ مؤسسيٍّ كبير، فكانوا هم نواة تأسيس المعاهد والمراسم والمعارض الفنية الوطنية.

أنشأ بعضهم أقسامًا للفنون في الجامعات، بينما أسّس آخرون جماعاتٍ فنية في عدن وصنعاء والمكلا وتعز، وأسهموا في تنظيم أولى المعارض الوطنية.

في لوحاتهم انعكست ملامح التأثير السوفيتي بوضوح: البنية التركيبية المحكمة، والمقاييس الواقعية للجسد الإنساني، واستخدام الألوان الزيتية الثقيلة.

لكنهم مزجوا ذلك بالروح اليمنية — بمشاهد العمارة الطينية في شبام حضرموت، وبالضوء الحار المنعكس على الموانئ، وبالملامح الشعبية التي تسكن الأسواق القديمة.

لقد صنعوا مدرسة يمنية جديدة في الفن التشكيلي تجمع بين التقنية الروسية والروح المحلية.

تحليل الورقة البحثية: منظور أنَاهي ألويسو-مارينو

في دراستها المنشورة عام 2013 تحت عنوان

"Impact of Transnational Experiences: The Case of Yemeni Artists in the Soviet Union",

قدّمت الباحثة الفرنسية أنَاهي ألويسو-مارينو قراءةً علمية معمقة لهذه الظاهرة.

ترى أن البعثات اليمنية إلى الاتحاد السوفيتي لم تكن مجرد مشروع تعليمي، بل تجربة اجتماعية-ثقافية غيّرت نظرة الفنان اليمني إلى ذاته ودوره في المجتمع.

تؤكد الباحثة أن تلك التجربة أنتجت شبكةً من العلاقات الثقافية العابرة للحدود بين موسكو وعدن وحضرموت وصنعاء، وأسست لما يمكن تسميته “الحداثة الفنية اليمنية.”

وتشير الدراسة إلى أن عدن كانت مركز الانطلاق الإداري لتلك البعثات، بينما كانت حضرموت أحد أهم مصادر الكوادر الفنية الوافدة، حيث عُرف عنها اهتمامها بالتعليم والانفتاح الثقافي منذ أوائل القرن العشرين.

كما تُبرز الورقة كيف أعاد الفنانون القادمون من الاتحاد السوفيتي صياغة المشهد التشكيلي اليمني، من خلال الجمع بين الانضباط الأكاديمي الاشتراكي وحرية التعبير المحلية.

ومن خلال المعارض التي أُقيمت في عدن وصنعاء والمكلا، تشكّلت نواة أول حراكٍ فنيٍّ حديث متكامل في البلاد.

القيمة الأكاديمية والأثر الثقافي

تُعد هذه الدراسة مرجعًا أساسيًا لفهم كيف لعب التعليم الفني دورًا في تشكيل الهوية الثقافية والسياسية لليمن المعاصر.

فالفنانون الذين درسوا في موسكو وأرمينيا لم يعودوا فقط بمهارات تقنية، بعادوا برؤية جديدة ترى في الجمال أداةً للتغيير.

لقد تحوّل الفن في اليمن من نشاطٍ فردي إلى فعلٍ اجتماعي مرتبط بفكرة التنمية الوطنية.

تلك الحقبة كانت أيضًا لحظة التقاء بين الحضارة اليمنية القديمة، ذات الجذور العميقة في العمارة والنقوش والزخرفة، وبين الحداثة السوفيتية الصارمة.

ومن هذا التلاقي وُلدت لغة بصرية جديدة يمكن وصفها بأنها “حداثة يمنية متصالحة مع جذورها.”

خاتمة

أربعة عقود مرّت على تلك التجربة، وما زالت آثارها حاضرة في أعمال كثير من الفنانين اليمنيين المعاصرين.

لكن الذاكرة البصرية لذلك الجيل مهددة بالضياع إن لم تُوثَّق وتُعرض كما يجب.

إن أرشفة تلك المرحلة، سواء في معارض وطنية أو عبر مشروعات رقمية مثل “الأرشيف الحضـرمي”، ليست مجرد حفظٍ للماضي، بل إعادة قراءةٍ لتاريخ الفن اليمني من منظورٍ إنساني عالمي.

لقد كان الطريق من عدن وحضرموت إلى موسكو أكثر من رحلة تعليمية؛ كان عبورًا حضاريًا نحو الوعي بالجمال بوصفه لغة عالمية تتجاوز السياسة، وتؤكد أن الفن يمكن أن يكون أصدق وسيلة لتوحيد الإنسان بذاته وبوطنه.

المراجع والاطلاع الموسّع

المرجع الرئيسي:

أنَاهي ألويسو-مارينو،

«تأثير التجارب العابرة للحدود: حالة الفنانين اليمنيين في الاتحاد السوفيتي»،

مجلة Arabian Humanities، العدد رقم (1)، الصادر عن المركز الوطني للبحث العلمي الفرنسي (CNRS)، عام 2013.

متاح عبر الرابط:

https://journals.openedition.org/arabianhumanities/2229

الترخيص: النصّ فقط مرخّص تحت رخصة المشاع الإبداعي CC BY-SA 4.0

(أما الصور والوسائط المرفقة فتخضع لحقوقٍ خاصة حسب كل مصدر).

للاطلاع الإضافي:

Katsakioris, Constantin. Arab Students in the Soviet Union, 1955–1991: Education, Party Relations, and Arab Nationalism. Oxford University Press, 2022.

Alviso-Marino, Anahi. Yemeni Artists in the Soviet Union: Transnational Education and Cultural Exchange. Presented at the European Association of Middle Eastern Studies, 2012.

The Qatar Digital Library (qdl.qa) – وثائق أرشيفية حول العلاقات اليمنية–البريطانية والسوفيتية.

Digital Library of the Middle East (dlme.clir.org) – مصادر مرئية ومكتوبة عن تاريخ الفن والتعليم في جنوب الجزيرة العربية.

تواصل معنا

اذا كان لديك ملاحظات، او اضافات، او شكاوى او اقتراحات لتطوير الارشيف، يرجى التواصل معنا

تابعنا على

الشريك التقني

اشترك في نشرتنا البريدية

ارشيف حضرموت الرقمي. جميع الحقوق محفوظة ©2025