اضغط بعيدا للإغلاق
نوفمبر 27, 2025

كلمة المؤسس

ينطلق DAOH من تراكم طويل في العمل البصري والتوثيقي، ومن إدراك لغياب حضرموت عن الذاكرة الرقمية العالمية. هذا المشروع يسعى إلى تحويل التراث المتناثر إلى بنية معرفية منظمة تحفظه وتجعله متاحًا للدراسة والبحث.

كلمة المؤسس

من الصعب تتبّع اللحظة التي يبدأ عندها تكوّن الوعي البصري، لكنني أجد أن معظم المسارات التي قادتني إلى تأسيس أرشيف حضرموت الرقمي يمكن ردّها إلى سنوات مبكرة تشكّلت فيها علاقتي بالصورة، وبالذاكرة، وبالمكان على نحو لم أكن أمتلك آنذاك الأدوات اللازمة لفهمه. نشأت في بيئة تحتفي بالفن بوصفه ممارسة يومية لا تنفصل عن تفاصيل الحياة، وكان والدي، الخطاط أحمد قنيوي، هو البوابة الأولى التي دخلت منها إلى عالم الحبر واللغة والرموز. كانت الخطوط التي يرسمها على الورق تمتلك ذلك الهدوء الذي لا يفرض نفسه، لكنها في الوقت ذاته تكشف عن تاريخ طويل من المهارة والصبر والمعرفة.

إن تراكم خبراتي، منذ طفولتي ثم اهتمامي بالتصوير التوثيقي، ودراستي المتخصصة للتصميم في مرحلتي البكالوريوس والماجستير، وجولاتي الطويلة في أروقة المتاحف والمؤسسات الثقافية والفعاليات العالمية، قد قادني إلى إدراك أمرٍ كان يتكرّر أمامي باستمرار: أن حضرموت ليست غائبة تمامًا عن تلك الأرشيفات، لكنها حاضرة في هيئة شظايا منفصلة؛ صورة يتيمة هنا، مخطوطة مبعثرة هناك، وثيقة بلا سياق، أو قطعة أثرية مجهولة الأصل. وعلى الرغم من وجود هذه المواد، فإنها لا تُنتج معرفة حقيقية، لأنها غير منظَّمة، وغير مترابطة، ولا تقع ضمن منظومة بحثية تكفل دراستها بصورة علمية. عند تلك اللحظة أدركت أن المشكلة ليست ندرة المواد، بل غياب النظام الذي يجمعها ويعيد تقديمها بما يعكس قيمتها التاريخية والإنسانية.

من هذا الشعور المستمر، ومن هذا التراكم الذي امتد لأكثر من عقد، بدأت فكرة أرشيف حضرموت الرقمي تأخذ شكلها. لم يكن المشروع في بدايته مبادرة شخصية أو عملاً متحمّسًا، بل كان نتيجة ضرورية لسنوات طويلة من التفاعل مع الصورة والتراث والمصادر التاريخية. مع مرور الوقت، صار واضحًا لي أن حضرموت بحاجة إلى إطار مؤسسي قادر على التعامل مع المادة التراثية بعيون الباحثين، ومن خلال المعايير الدولية المعروفة في الحفظ الرقمي، وليس كنوع من الحنين أو كأرشيف عائلي محدود.

نشأ أرشيف حضرموت الرقمي إذن كمحاولة لتأسيس بنية معرفية حديثة تعيد وضع التراث الحضرمي في موقعه الطبيعي داخل الذاكرة العالمية. نحن لا نهدف لجمع المواد وحسب، بل إلى خلق بيئة معرفية قادرة على استقبال هذه المواد، وتحليلها، ووصفها، وتعريفها، وإتاحتها للباحثين بطريقة تُراعي الدقة العلمية والاحترام الثقافي والسياق التاريخي. إن العمل على توثيق قطعة أثرية أو مخطوطة أو صورة ليس نهاية العملية، بل بدايتها، لأن القيمة الحقيقية تتشكل حين تُربط هذه المواد بسياقها، وبالخط الزمني للتاريخ، وبالجغرافيا التي أنتجتها، وبالمجتمع الذي تمثل جزءًا منه.

من الناحية الأكاديمية، يعتمد الأرشيف على معايير IFLA وUNESCO في الحفظ الرقمي، وعلى نماذج وصفية دقيقة في بناء البيانات الوصفية. تُستخدم في الرقمنة صيغ غير مضغوطة عالية الجودة، وتُحفظ المواد في خوادم آمنة مع نسخ متعددة في مواقع جغرافية مختلفة. هذا المستوى من الالتزام ليس ترفًا تقنيًا، بل شرطًا أساسيًا لأي مؤسسة تريد أن يكون عملها ذا قيمة علمية طويلة المدى.

وإلى جانب الجانب التقني، يتأسس الأرشيف على رؤية ثقافية واضحة: أن التراث الحضرمي جزء من الذاكرة الإنسانية الأوسع، وأن قيمته لا تقتصر على الحدود الجغرافية للمنطقة. فحضرموت لعبت دورًا كبيرًا في التاريخ التجاري والثقافي والديني للعالم العربي وشرق أفريقيا والهند وجنوب شرق آسيا. وهذا الامتداد لا يمكن فهمه دون قراءة شاملة لمصادره البصرية والمادية والمكتوبة. ولهذا، يعمل الأرشيف على جمع المواد من المتاحف العالمية والمجموعات الخاصة، كما يعمل على تنفيذ مشاريع ميدانية داخل حضرموت لرقمنة ما لم يدخل بعد في أي إطار مؤسسي.

وفي السنوات الأخيرة، أصبح من الواضح أن التحدي الأكبر ليس فقط حفظ التراث، بل بناء نظام يسمح بإعادة قراءته. الذكاء الاصطناعي، مثلًا، أصبح قادرًا على ربط الصور بالمخطوطات، وعلى تحليل النصوص القديمة، وعلى تتبع العلاقات بين المواد بطريقة لم تكن ممكنة قبل عقد واحد فقط. وهنا تأتي مهمة DAOḤ، ليس من أجل جمع المواد، بل من أجل تهيئة بنية تسمح بالتفاعل معها بطرق بحثية متقدمة. نحن لا نرى الأرشيف كمخزن معلومات، بل كمختبر يمكن للباحثين فيه تطوير أسئلة جديدة وفهم أعمق، وكفضاء معرفي يعيد تشكيل علاقة الأجيال القادمة بتراثها.

إن بناء أرشيف حضرموت الرقمي ليس مشروعًا قصير المدى، ولا مشروعًا مرتبطًا بشخص أو فريق بعينه. إنه مشروع مؤسسة، ومشروع رؤية، ومشروع جيل. وهو نتيجة طبيعية لمسيرة امتدت من طفولة في بيت يقدّر الفن، إلى سنوات دراسية في مدارس وجامعات متعددة، إلى مسار مهني في التصميم البصري والتوثيق، إلى رحلة طويلة في أرشيفات العالم. كل تلك التجارب تتقاطع اليوم في نقطة واحدة: السعي إلى حماية الذاكرة من التلاشي، وإلى تحويل التراث من مادة خام إلى معرفة مستدامة.

حضرموت بالنسبة لي ليست موضوعًا للبحث أو مصدرًا للاهتمام الثقافي. إنها ذاكرة شخصية وجماعية، وموقع لصياغة الهوية، وخزان عالمي للمعرفة. وإن فقدان هذه الذاكرة ليس خسارة لأهل المكان فقط، بل خسارة للثقافة الإنسانية ككل. ومن هنا تنطلق مسؤولية DAOḤ: أن يكون جسرًا بين الماضي والمستقبل، وبين المعرفة المحلية والمعرفة التي يمكن للعالم كله أن يشارك فيها.

إن هذا المشروع ليس نهاية رحلتي، بل امتدادًا طبيعيًا لها. وهو محاولة صادقة لتأسيس إطار يجعل من حضرموت، بكل ما تحمل من إرث بصري ومكتوب ومادي، جزءًا من الحوار العالمي حول التراث والهوية والمعرفة. وما أطمح إليه في النهاية هو أن يجد كل باحث، وكل طالب، وكل مهتم بالثقافة، مكانًا يتيح له فهم حضرموت ليس من خلال الحنين، بل من خلال المعرفة. وأن يكون هذا الأرشيف شاهدًا على أن الذاكرة، مهما تعرضت للضياع، يمكن أن تُستعاد حين تتوفر الإرادة والمنهجية والرؤية.

ياسر أحمد قنيوي
المؤسس والمدير التنفيذي
DAOH – Digital Archive of Hadramout

تواصل معنا

اذا كان لديك ملاحظات، او اضافات، او شكاوى او اقتراحات لتطوير الارشيف، يرجى التواصل معنا

تابعنا على

الشريك التقني

اشترك في نشرتنا البريدية

ارشيف حضرموت الرقمي. جميع الحقوق محفوظة ©2025